نسبة المياه على سطح كوكب الأرض أكبر من نسبة اليابس، هذا أمر بديهي وهو أول ما نتعلمه في دروس الجغرافيا في الصف الابتدائي، وهو أول ما نستنبطه عند النظر إلى الكرة الأرضية أيضًا، ولكن سبب وجود المياه على كوكبنا ليس بنفس الحس البديهي. ففي الواقع، يُحَير هذا الأمر علماء الكواكب حتى يومنا هذا، فالبعض يقول مصدر المياه على كوكبنا هو الكويكبات، والبعض يقول هو المذنبات، والبعض يرجح كفة هذا حينًا وكفة ذاك حينًا آخر بدون حتمية قاطعة.

ولكن قبل أن نسرد النظريات المختلفة عن أصل وجود المياه على كوكب الأرض، دعونا نشرح الفرق بين الكويكب والمذنب أولاً.

الكويكبات Asteroids تدور في حزام الكويكبات بين كوكب المشتري وكوكب المريخ، ولها ثلاثة تصنيفات ولكن معظمها يتكون من الطين والسليكات أو من مزيج من الحديد والنيكل.

صورة توضح الكويكب بينو.

أما المذنبات Comets فتدور في مدار وراء كوكب نبتون وقريب من الكوكب القزم بلوتو، وهي أجسام ثلجية بطبقة من المواد العضوية السوداء، وعندما تمر المذنبات قرب الشمس يتبخر الثلج على سطحها لنرى ذيل المذنبات الشهير.

صورة توضح المذنب تشوريوموف جيرازيمنكوا

المصدر المجهول

الآن، فلنطرح السؤال المهم: إلام يُعزى وجود المياه بهذه الكميات الكبيرة على كوكب الأرض؟ وعلام الخلاف؟ يمكنكم أعزائي القراء استنتاج من تعريف الكويكبات والمذنبات أن المذنبات تحظى برصيد أكبر من المياه، وقد يبدو أن الفضل يعود لها في وجود المياه على كوكب الأرض. ولكن الخلاف ينشأ بين العلماء بسبب بُعد المذنبات عن كوكب الأرض، فهي تتجول بالقرب من مدار بلوتو بعيدًا جدًا عن الأرض، مما يُقلل احتمالية تصادم المذنبات بالكوكب، وهذا على عكس الكويكبات التي تتجول قريبًا من الأرض ولها الفضل في تكوين بعض الكواكب أيضًا، فلمَ لا نأخذ الكويكبات بعين الاعتبار عند الحديث على المياه على كوكب الأرض، خاصةً مع اكتشاف ناسا لمياه على سطح كويكب بينو في ديسمبر من العام الماضي؟

للإجابة على هذا السؤال نعود إلى النتائج الأخيرة التي أطلقتها ناسا في مايو لهذا العام، والتي تكشف فيها عن نتائج رصد المذنب Wirtanen، والتي أثبتت أن المياه على سطح هذا المذنب تشبه المياه في المحيطات على سطح الأرض، مما يوحي أنهم من مصدر واحد. وللوصول لهذا الاستنتاج، قام العلماء بقياس نسبة المياه الثقيلة D2O -التي تحتوي على نظير من نظائر الهيدروجين ذي كتلة أكبر وهو الديوتريوم- إلى نسبة المياه العادية H2O على سطح المذنب ووجدوها مطابقة للنسبة المقاسة على الأرض.

صورة للمذنب Wirtanen التقطها تلسكوب هابل

على الرغم من هذا، لا تعني هذه الدراسة أن الأبحاث ستتوقف عن ملاحقة إمكانية كون الكويكبات هي سبب وجود المياه على الأرض، كل ما في الأمر أن هذه الدراسة تُرجح الآن كفة المذنبات على كفة الكويكبات، ولا يسعنا سوى انتظار المزيد من القياسات والأبحاث. 

وسنجد أن قياس نسبة المياه الثقيلة إلى العادية على سطح المذنبات ليس سهلاً ويشكل بعض العقبات، ولكن ناسا ومركز الفضاء الألماني لديهما المرصد المناسب لهذه المهمة.

صوفيا تساعدنا

فلنتخيل معًا وجود مرصد على سطح الأرض لقياس نسبة المياه الثقيلة إلى العادية على مذنب عابر خارج حدود الغلاف الجوي، سنجد أن الأمر مستحيل لأن الغلاف الجوي للأرض يحتوي على المياه أيضًا، وهذه المياه ستعمل كحاجز بين المرصد على الأرض وبين رصد المياه على أي جسم آخر.  

لذلك كانت الحاجة لمرصد الستراتوسفير لعلوم الفلك ما تحت الحمراء صوفيا (the Stratospheric Observatory for Infrared Astronomy)، وهو مرصد مختلف بعض الشيء إذ إنه مرصد متحرك بداخل طائرة من نوع Boeing 747SP وعلى ارتفاع يتراوح بين 11.5 ألف كيلومتر إلى 13.7 ألف كيلومتر في طبقة الستراتوسفير، وهذا لتفادي التشويش الذي يفرضه الغلاف الجوي على القياسات في مجال الأشعة ما تحت الحمراء مثل قياس المياه على سطح المذنبات. 

صورة للطائرة التي تحمل مرصد صوفيا

ماذا عن باقي الكواكب

قد تتساءلون: هل الأرض هي الكوكب الوحيد الذي ضُرب بالكويكبات أو المذنبات ومن ثم وُهِب نعمة المياه؟ في واقع الأمر، الإجابة هي لا! فهناك بالتأكيد مياه على كواكب أخرى وعلى أقمار وكويكبات وداخل سُدم نجمية أيضًا (مع العلم أن سبب وجود المياه على هذه الأجسام قد يختلف عن سبب وجودها على الأرض). فعلى سبيل المثال لا الحصر، يُعتقد أن هناك مياهًا مالحة سائلة أو شبه سائلة تحت القشرة الخارجية لقمر المشتري يوروبا، كما أن سطحه مغطى بالثلوج أيضًا. ويتوقع العلماء أن قمر زحل إنسيلادوس لديه خزان من المياه عند قطبه الجنوبي واقع تحت قشرة سميكة من الثلوج تقدر بحوالي 30 إلى 40 كيلومترًا. 

صورة لقمر زحل إنسيلادوس

وإذا انتقلنا إلى ما وراء المجموعة الشمسية، سنجد بخار الماء على كوكب HAT-P-11b الذي يبعد عنا بـ 120 سنة ضوئية، وسنجد جزيئات المياه تتكون داخل سديم الجبار Orion Nebula بمعدل يملأ محيطات الأرض ستين مرة!

ولكن إن كان الأمر كذلك، فلمَ لا نشد الرحال إلى هذه العوالم لننشئ حضارات جديدة؟ 

عوامل توافر الحياة

هذا لأن كثيرًا منا لا يُلاحظ أن الله لم يمنح كوكبنا المياه فقط ليكون صالحًا للحياة. فمع شرط وجود المياه لتوافر الحياة، نجد أن هناك عاملاً آخر لا يقل أهمية، ألا وهو وجود نطاق صالح للحياة Habitable Zone حول النجم المُستضيف للجسم (كوكب، كوكب قزم، كويكب، إلخ).

مبدأ وجود نطاق صالح للحياة يعني البحث عن النطاق حول النجم المستضيف الذي ليس قريبًا جدًا أو بعيدًا جدًا من النجم، بحيث يتمتع هذا النطاق بدرجة الحرارة المناسبة للحفاظ على المياه بصورتها السائلة إن توفرت على سطح أي جسم داخل حدود هذا النطاق. خلاصة القول: وجود المياه خارج حدود هذا النطاق إما سيؤدي إلى تجمدها أو تبخرها، وفي كلتا الحالتين فهي غير صالحة للاستخدام المباشر أو لاستضافة أشكال الحياة التي نعرفها على الأرض.

صورة تخيلية توضح مبدأ النطاق الصالح للحياة

العامل الأساسي لتحديد موقع هذا النطاق هو النجم المستضيف، فإن كان النجم كبيرًا وذا درجة حرارة عالية جدًا مثل نجوم الـ B-dwarf يصبح النطاق الصالح للحياة بعيدًا عن النجم؛ لأن القرب من النجم في هذه الحالة سيعني وجود مياه في شكل بخار أو لا مياه على الإطلاق. أما إن كان نجمًا صغيرًا وذا درجة حرارة منخفضة نسبيًا مثل نجوم الـ M-dwarf، يصبح النطاق قريبًا من النجم المستضيف لأن البُعد عن النجم في هذه الحالة سيعني وجود مياه في صورة ثلج. 

صورة تخيلية توضح الفرق في النطاقات الصالحة للحياة لنجوم بدرجات حرارة مختلفة

الوقت هو عامل آخر يجب أخذه في عين الاعتبار إن أردنا الاعتقاد بوجود حياة عاقلة لفترة طويلة على أجسام فضائية أخرى، حيث إن النجوم العملاقة تستمر في الاحتراق لبضعة ملايين من السنين فقط وهي فترة لا تكفي لإنشاء الحياة العاقلة، والتي تحتاج إلى بضعة مليارات من السنين، في حين أن النجوم المتوسطة (مثل الشمس) والصغيرة تحترق لعشرات المليارات من السنين وهي فترة أكثر من كافية!

إن فهمنا لأصل وجود المياه على كوكب الأرض (من الكويكبات أو المذنبات أو جسيم آخر تمامًا) ليس مجرد فضول علمي، ولكنه سيعطينا المنظور الصحيح للبحث عن أجسام أخرى مرت بنفس الظروف، وبالتالي يمكنها نظريًا أن تستضيف حياة مستقبلية إذا استوفت الشروط الباقية لتوافر الحياة.